تحديات المقاومة الفلسطينية- بين الانقسام العربي والسردية الغربية

مع انخراط قوى الممانعة، وفي طليعتها حزب الله وإيران بأذرعها الاستراتيجية المتنوعة، في دعم وإسناد المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، شهد العالم العربي والإسلامي انقسامًا حادًا، داخليًا وخارجيًا، بين مختلف التيارات والطوائف والأحزاب. فمنهم مَن عارض هذا التحالف بشدة، ومنهم مَن أيَّده بكل قوة، مما أدى إلى تجدد الخطاب الطائفي المقيت وازدهاره في أوساط الحركات الإسلامية السياسية، بين محور يرفع راية التشيع وآخر يمثل السنة.
لم يقتصر هذا الصراع الجدلي على الساحة السياسية والدينية، بل امتد ليشمل صفوف العلمانيين والمتدينين، وكذلك بين اليمين واليسار، وبات يظهر جليًا في التباين بين رؤى الأنظمة الحاكمة وتطلعات الشعوب العربية والإسلامية. ونتيجة لهذا التصدع، أصبح من العسير، بل من المستحيل، صياغة رؤية موحدة للدفاع عن الحق في المقاومة والتحرر.
هذا الانقسام المرير أضعف قدرة المنطقة العربية والإسلامية على مواجهة الرواية الغربية المهيمنة، وعطّل جهود تعبئة الجماهير والأنظمة في دول عديدة، مثل جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وحتى في بعض الدول الغربية التي أبدت تعاطفًا مع الحق الفلسطيني بعد أحداث طوفان الأقصى، مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج وغيرها.
المقاومة بين السردية الغربية وسردية محور الممانعة
على الرغم من الانتصار الباهر الذي حققته المقاومة في غزة، قياسًا إلى التفاوت الهائل في موازين القوى بين قدراتها العسكرية المحدودة وجيش الاحتلال المدعوم بلا حدود من الغرب، والمسنود أمريكيًا بالسلاح والعتاد والمعلومات والاستخبارات والحصار الاقتصادي، إلا أن هذا الانتصار لم يكتمل بسبب الغياب شبه التام للدعم العربي والإسلامي، باستثناء ما قدمه محور المقاومة، ممثلًا في إسناد حزب الله في لبنان وأنصار الله الحوثي في اليمن.
لا شك أن الهزيمة المدوية التي مني بها حزب الله في لبنان، على الصعيدين السياسي والعسكري، بعد اغتيال قادته البارزين، وتحول سوريا إلى منطقة عازلة ومحايدة في الصراع مع جيش الاحتلال، إثر سقوط نظام بشار الأسد وما خلفه من جرائم التعذيب والقمع والسجون المكتظة بالمعتقلين السياسيين، كان لها تأثير بالغ على مجمل الأوضاع في المنطقة.
فقد ارتفعت أصوات الصهيونية الوظيفية، مدفوعة بالنشوة، تحاول النيل من شعارات المقاومة والصراع العربي-الإسرائيلي، مستغلة التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، وما رافق ذلك من تحول استراتيجي في النظام العالمي نحو سياسة القوة الغاشمة.
وقد تجلى ذلك بوضوح في التعامل الأمريكي مع إسرائيل في المنطقة، حيث برزت السياسة الأمريكية كسياسة احتكارية تسعى إلى استغلال غزة والضفة الغربية لصالح مشاريع اقتصادية أمريكية-صهيونية، وهو ما يمثل ترجمة مباشرة للسياسة الأمريكية القائمة على توظيف القوة العسكرية والنفوذ من أجل استغلال مناطق التوتر في العالم، كما رأينا بوضوح في الملف الأوكراني، وقبله في الملفات العراقية والسورية واللبنانية والفلسطينية، وفي عموم منطقة الشرق الأوسط.
في هذا السياق المأساوي، سمعنا دونالد ترامب يطلق تصريحات عنصرية من داخل البيت الأبيض، داعيًا إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء والأردن ودول عربية أخرى.
ورغم رفض معظم دول المنطقة للطرح الأمريكي-الإسرائيلي، فإن الشعب الفلسطيني ظل يعاني الأمرين بين مطرقة أمريكا وإسرائيل وسندان الخضوع العربي والإسلامي، في ظل صمت مطبق في الدول العربية والإسلامية، باستثناء بعض الدول التي تجرأت على كسر هذا الصمت، نظرًا للقبضة الحديدية التي تمارسها الأنظمة في هذه الدول على الفضاء العام، من خلال التحكم في الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.
إلا أن هذه القيود السلطوية لا تفسر وحدها معضلة القضية الفلسطينية في الوعي الشعبي. فالاكتفاء بالحديث عن استبداد الأنظمة لا يكفي منهجيًا لدراسة وتحليل الخلل الوظيفي الذي أصاب الذاكرة الجماعية العربية، التي أصبحت مشلولة إلى حد كبير في الفعل.
يقودنا التحليل السوسيو-أنثروبولوجي للخطاب العربي إلى استخلاص وجود شرخ عميق في الذاكرة الجماعية للشعوب، وهذا الشرخ ناتج عن تغير في التصورات حول القضية الفلسطينية، حيث برزت أصوات هنا وهناك تنادي بالالتزام بمفهوم الوطن والدولة القُطرية بدلًا من القومية العربية والإسلامية، في مقابل أصوات أخرى باتت ترى في القضية الفلسطينية عبئًا ثقيلاً على الأنظمة التي أصبحت، بحكم تضخم مستويات التبعية الاقتصادية والسياسية، بمثابة امتداد للسياسة الأمريكية.
وبما أن القوة الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية هي التي تحدد مسار الأحداث في نهاية المطاف، فإن هذه الأنظمة وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، بسبب التهديدات الأمريكية بوقف المساعدات، وتعقيد الحصول على القروض والسلاح، على سبيل المثال لا الحصر.
وفي هذا السياق، تعالت أصوات حزبية وسياسية تنادي بالتخلص من حماس، أو على الأقل تحييدها في مرحلة إعادة إعمار غزة، باعتبارها تجسيدًا للإسلام السياسي.
وبين هذا وذاك، صدحت أبواق الصهيونية الوظيفية، التي تمثلت في كتّاب وإعلاميين ومثقفين عرب يرون، في وهم، أن التطبيع مع إسرائيل هو الحل الأمثل لمشكلات التنمية والتقدم في المنطقة العربية، باعتبار إسرائيل، ممثلة الغرب في المنطقة، قوة عسكرية وعلمية وتكنولوجية، وأن استرضاءها هو استرضاء للقوة العظمى في العالم، أي أمريكا وعموم أوروبا. لكنهم تناسوا أن الدول التي طبّعت مع إسرائيل منذ عقود لم تجنِ من ذلك شيئًا مما يتوهمونه، بل على العكس، ازداد اعتمادها على الخارج وتفاقم فشل مشاريع التنمية بشكل غير مسبوق.
إن تحليل خطاب كل هذه الأطراف يحتم علينا الرجوع إلى الهزائم المروعة التي منيت بها الأنظمة العربية منذ نكبة 1948 مرورًا بنكسة 1967، وبمسلسل السلام الذي سرعان ما تحول إلى استسلام في كامب ديفيد ومدريد وأوسلو وغيرها، وهي الهزائم التي تغلغلت في الذاكرة الجماعية وحطمت المتخيل العربي في الصميم، إذ تحول الصراع العربي الإسرائيلي تدريجيًا إلى صراع فلسطيني-إسرائيلي.
وترافق ذلك مع تضخم مستويات التخلف والفشل التنموي في المنطقة العربية، حيث أصبح البنك الدولي، من خلال سياساته للإصلاح الهيكلي، هو المتحكم الفعلي في هذه الدول على المستويين الاقتصادي والسياسي.
وبالتدريج، فقدت دول المنطقة سيادتها وأصبحت تحت رحمة الغرب ببنوكه ومؤسساته الاقتصادية، وهو ما جعلها ترضخ لتغيير جوهري في خطابها السياسي، فمنذ التسعينيات بدأت ملامح التغيير في وجهة نظر الأنظمة والنخب من القضية الفلسطينية تظهر بجلاء.
وهكذا، غيرت الأحزاب السياسية من حدة خطابها الرافض للكيان الإسرائيلي، وتحول الإعلام من الإدانة والرفض والنقد إلى تلطيف خطابه تجاه إسرائيل، وامتد ذلك إلى تغيير طال المناهج الدراسية والجامعية. فتهيأت، بفعل ذلك، الظروف لاستقبال وتلقي دعوات التطبيع السياسي، بعد أن بدأ بالتطبيع الاقتصادي مباشرة بعد كامب ديفيد، ليصبح الأمر تحصيل حاصل بعد اتفاقية أوسلو.
المقاومة الفلسطينية بين المحلية العربية والكونية الإنسانية
في هذا السياق المليء بالتحديات، وما ترتب عنه في الإعلام الدولي والخطاب السياسي العالمي، نشأت أجيال التسعينيات وبداية الألفية الثالثة في مناخ الاستلاب الثقافي والفكري الذي جعل الغرب، ممثلًا في أمريكا وأوروبا، هو القدوة والمثال. فنشأت نخب جديدة مغرقة في الافتتان بالحداثة الغربية وموهومة بالتحديث الذي تأسس، أيديولوجيًا، على الانفصال مع التراث والهوية القومية، خاصة بعد أن أفل نجم اليسار والتقدمية في المنطقة العربية، وفي عموم العالم بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، الذي تحول بفضل "البرويسترويكا" -سياسة إعادة الهيكلة- إلى دول ذيلية تدور حول مدار الرأسمالية الاحتكارية الغربية.
ولذلك، لم تستطع هذه الأجيال، التي نشأت على الدعاية الأمريكية والغربية عمومًا، أن تفهم جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي، وكيف تحول إلى صراع فلسطيني-إسرائيلي، وهو الذي تأسس على احتلال واستيطان أرض شعب بعد تشريده وطرده من أرضه في سياق استعماري رأسمالي احتكاري.
وفي هذا المناخ الذي انتعشت فيه السردية الغربية المناصرة لإسرائيل والداعمة لسياستها الاستيطانية والإحلالية، تراجع تأثير المشهد الثقافي والفني في أجيال الشباب العربي، إذ حصل بالتدريج تحول كبير في الدراما والمسلسلات والسينما، التي انتقلت من تقديم إسرائيل كعدو ومحتل لفلسطين، إلى جار وأبناء عمومة ودعاة سلام وحاملي قيم الحداثة والتقدم.
وبعد أن كانت إسرائيل موضوعًا للجاسوسية والخيانة في عدد كبير من المسلسلات العربية، أصبحت الدراما العربية غارقة في مواضيع استهلاكية فجة، ومنتصرة للخلاص الفردي والترقي الاجتماعي على حساب القيم والمبادئ، في ظل تضخم مستويات نظام التفاهة في العالم الاستهلاكي. وهو ما يشكل اختراقًا إسرائيليًا للفنون والدراما والتلفزيون والسينما في المنطقة.
إن الأجيال الحالية، وخاصة أجيال التسعينيات وما بعدها، لا تفهم كيف أن محور الممانعة هو في العمق محور نشأ على أعقاب الصراع بين القطبين: الاتحاد السوفياتي والغرب الرأسمالي بزعامة أمريكا، وأن الدين أقحم في هذا الصراع لتمييعه وتحويره عن مقاصده السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
فالثورة الإيرانية نشأت في مناخ رافض للهيمنة الغربية الرأسمالية واحتكارها لمدخرات الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، وإن كانت اتخذت من الدين آلية من آليات الأدلجة النسقية لنظام الحكم، وإن أخطأت إيران من خلال ولاية الفقيه في امتدادها الأيديولوجي في المنطقة من خلال إستراتيجية التشييع، وجعلت من طوائف الشيعة في مختلف المناطق العربية أذرعًا للهيمنة والسيطرة، مما جعلها منبوذة من قبل الأنظمة التي رأت في ذلك تهديدًا خطيرًا.
إن التحوير الذي مارسته آليات الإعلام والفكر في الغرب لجوهر الصراع جعله يبتكر مفاهيم تحليلية سرعان ما هيمنت على الخطاب العلمي والفكري والثقافي في العلوم السياسية والاجتماعية من قبيل: الإسلام السياسي، أسلمة المجتمع، الإسلام الحركي، الطائفية والقبائلية، وبالتدريج بات الخطاب العربي والإسلامي في العلوم الاجتماعية يعيد إنتاج نفس النسق الفكري الغربي منهجيًا ونظريًا، وهو ما جعل الصراع السياسي في المنطقة ينتقل من الصراع حول الاقتصاد والاحتكار والاستغلال والهيمنة والتبعية إلى صراع أيديولوجي بين اليسار واليمين، وبين الإسلام السياسي والأنظمة والنخب التقدمية، وكلما توغلت النخب التي تتبنى أيديولوجية دينية مغرقة في الماضوية، واشتدت مستويات تبعية النخب التقدمية للغرب، اشتدَّ الصراع وتحول إلى حروب طاحنة بين هذه الأطراف المتنازعة.
وهكذا، تم تغييب جوهر الصراع بين الشمال والجنوب، وبين الدول النامية والدول الغربية، وبين البلدان العربية ومستعمريها السابقين/الجدد، ليتحول إلى صراع حول السلطة والحكم، الذي بقي يدور في فلك الغرب ويسترشد بأوامره مهما كانت الحكومات والأنظمة.
ولهذا، فبالرغم من أن المنطقة العربية عرفت حكومات من مختلف التوجهات: إسلامية، يسارية، يمينية، ليبرالية…إلخ، فلم تستطع أن تبني استقلالًا سياسيًا واقتصاديًا وقاعدة علمية راسخة على الإطلاق.
وفي هذا السياق، ساهمت الصراعات والحروب العربية-العربية في تأزيم الذاكرة الجماعية، وفقدت النخب ثقتها في الخلاص الجماعي والقومي، وباتت القومية العربية مجرد ذكرى باهتة لزمن الهزيمة. وعليه، فقد تمكن الغرب، بعد تغريب الصراع العربي-الإسرائيلي وتفكيك نخب المقاومة الثقافية والفكرية، من بناء سردية غربية رأسمالية احتكارية متينة، تتخفى بأقنعة الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وصار سبب التخلف في المنطقة هو الإسلام ومقاومة الحداثة والتحديث.
وبالمقابل، أصبحت المقاومة الفلسطينية سببًا في الحروب والفوضى في منطقة الشرق الأوسط، وهو الخطاب الذي تبناه وصاغه المحافظون الجدد في أمريكا، في تبريرهم لغزو العراق واحتلاله، وفي إجهاض ثورات الربيع العربي وتحويرها، وهو الخطاب نفسه الذي بات يبرر حرب الإبادة العرقية في فلسطين، وقد تمَكن هذا الخطاب من أن يخترق الخطاب العربي الرسمي ومن يدور حوله من نخب براغماتية ترى أن التمسك بالتراث والدين هو سبب التخلف في المنطقة.
واستنادًا إلى ما سبق، فشلت المجتمعات العربية في بناء سردية عربية إسلامية مقنعة للصراع العربي-الإسرائيلي من خلال تفكيك الخطاب الغربي ونقد أسسه الأيديولوجية والاقتصادية المتمثلة في الرأسمالية الاحتكارية.
وهو ما يفسر تواضع الدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية مقارنة بما حققته أمريكا اللاتينية وأفريقيا والصين وروسيا، من قبيل العصيان المعرفي، ونقد الحداثة، والواقعية البنائية، وما إلى ذلك من توجهات نقدية للمركزية الغربية وللحداثة في أفولها وتهافتها الأخلاقي.
تأسيسًا على ما سبق، تصبح الدعوة إلى بناء سردية عربية إسلامية عالمية حول القضية الفلسطينية إحدى الواجهات الأساسية للمقاومة الثقافية التي يجب أن تمتد إلى مجالات الأدب والفنون والسينما والدراما، من خلال عودة النخب المثقفة إلى واجهة الأحداث، وهي مسؤولية عظمى تتجاوز الانتماء الضيق للدولة القُطرية لتعانق الانتماء الواسع للإنسانية جمعاء.
وهنا تصبح الجامعة واحدة من أهم الفضاءات المعرفية التي يجب أن تعمل على ازدهار الدراسات الثقافية والديكولونيالية، وعلى تشجيع البحث العلمي في مجالات السيادة الثقافية والفكرية والعلمية، كما يجب على الإعلام، المسنود بالمجتمع المدني، أن يلعب دوره الحيوي في التأطير ونشر الفكر المستنير والمعرفة الرصينة للشعوب العربية التي باتت تعيش تحت وطأة القصف الإعلامي والفكري الغربي، الذي يعمل بلا هوادة على نشر سرديته الاستعمارية والاحتكارية وثقافته الاستهلاكية المستندة إلى التسطيح والانحلال.